Muslim Library

تفسير القرطبي - سورة الممتحنة - الآية 1

خيارات حفظ الصفحة والطباعة

حفظ الصفحة بصيغة ووردحفظ الصفحة بصيغة النوت باد أو بملف نصيحفظ الصفحة بصيغة htmlطباعة الصفحة
Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) (الممتحنة) mp3
الْمُمْتَحِنَة ( بِكَسْرِ الْحَاء ) أَيْ الْمُخْتَبِرَة , أُضِيفَ الْفِعْل إِلَيْهَا مَجَازًا , كَمَا سُمِّيَتْ سُورَة " التَّوْبَة " الْمُبَعْثَرَة وَالْفَاضِحَة ; لِمَا كَشَفَتْ مِنْ عُيُوب الْمُنَافِقِينَ . وَمَنْ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَة : الْمُمْتَحَنَة ( بِفَتْحِ الْحَاء ) فَإِنَّهُ أَضَافَهَا إِلَى الْمَرْأَة الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا , وَهِيَ أُمّ كُلْثُوم بِنْت عُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّه أَعْلَم بِإِيمَانِهِنَّ " [ الْمُمْتَحَنَة : 10 ] الْآيَة . وَهِيَ اِمْرَأَة عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف , وَلَدَتْ لَهُ إِبْرَاهِيم بْن عَبْد الرَّحْمَن .

" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاء " عَدَّى اِتَّخَذَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَهُمَا " عَدُوّكُمْ أَوْلِيَاء " . وَالْعَدُوّ فَعُول مِنْ عَدَا , كَعَفُوّ مِنْ عَفَا . وَلِكَوْنِهِ عَلَى زِنَة الْمَصْدَر أَوْقَع عَلَى الْجَمَاعَة إِيقَاعه عَلَى الْوَاحِد .

رَوَى الْأَئِمَّة - وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ - عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : بَعَثَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْر وَالْمِقْدَاد فَقَالَ : ( اِئْتُوا رَوْضَة خَاخ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَة مَعَهَا كِتَاب فَخُذُوهُ مِنْهَا ) فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلنَا , فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ , فَقُلْنَا : أَخْرِجِي الْكِتَاب , فَقَالَتْ : مَا مَعِي كِتَاب . فَقُلْنَا : لَتُخْرِجَنَّ الْكِتَاب أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَاب , فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصهَا . فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ : مِنْ حَاطِب بْن أَبِي بَلْتَعَةَ ... إِلَى نَاس مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْل مَكَّة يُخْبِرهُمْ بِبَعْضِ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا حَاطِب مَا هَذَا ؟ قَالَ لَا تَعْجَل عَلَيَّ يَا رَسُول اللَّه , إِنِّي كُنْت اِمْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْش - قَالَ سُفْيَان : كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ , وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسهَا - وَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَك مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَات يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ , فَأَحْبَبْت إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَب فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي , وَلَمْ أَفْعَلهُ كُفْرًا وَلَا اِرْتِدَادًا عَنْ دِينِي , وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْد الْإِسْلَام . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( صَدَقَ ) . فَقَالَ عُمَر : دَعْنِي يَا رَسُول اللَّه أَضْرِب عُنُق هَذَا الْمُنَافِق . فَقَالَ : ( إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّه اِطَّلَعَ عَلَى أَهْل بَدْر فَقَالَ اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ ) فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاء " . قِيلَ : اِسْم الْمَرْأَة سَارَّة مِنْ مَوَالِي قُرَيْش . وَكَانَ فِي الْكِتَاب : " أَمَّا بَعْد , فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكُمْ بِجَيْشٍ كَاللَّيْلِ يَسِير كَالسَّيْلِ , وَأُقْسِم بِاَللَّهِ لَوْ لَمْ يَسِرْ إِلَيْكُمْ إِلَّا وَحْده لَأَظْفَرَهُ اللَّه بِكُمْ , وَأَنْجَزَ لَهُ مَوْعِده فِيكُمْ , فَإِنَّ اللَّه وَلِيّه وَنَاصِره . ذَكَرَهُ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ . وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ وَالثَّعْلَبِيّ : أَنَّ حَاطِب بْن أَبِي بَلْتَعَةَ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْل الْيَمَن , وَكَانَ لَهُ حِلْف بِمَكَّة فِي بَنِي أَسَد بْن عَبْد الْعُزَّى رَهْط الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام . وَقِيلَ : كَانَ حَلِيفًا لِلزُّبَيْرِ بْن الْعَوَّام , فَقَدِمَتْ مِنْ مَكَّة سَارَّة مَوْلَاة أَبِي عَمْرو بْن صَيْفِيّ بْن هِشَام بْن عَبْد مَنَاف إِلَى الْمَدِينَة وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّز لِفَتْحِ مَكَّة . وَقِيلَ : كَانَ هَذَا فِي زَمَن الْحُدَيْبِيَة ; فَقَالَ لَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَمُهَاجِرَة جِئْت يَا سَارَّة ) . فَقَالَتْ لَا . قَالَ : ( أَمُسْلِمَة جِئْت ) قَالَتْ لَا . قَالَ : ( فَمَا جَاءَ بِك ) قَالَتْ : كُنْتُمْ الْأَهْل وَالْمَوَالِي وَالْأَصْل وَالْعَشِيرَة , وَقَدْ ذَهَبَ الْمَوَالِي - تَعْنِي قُتِلُوا يَوْم بَدْر - وَقَدْ اِحْتَجْت حَاجَة شَدِيدَة فَقَدِمْت عَلَيْكُمْ لِتُعْطُونِي وَتُكْسُونِي ; فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : ( فَأَيْنَ أَنْتِ عَنْ شَبَاب أَهْل مَكَّة ) وَكَانَتْ مُغْنِيَة , قَالَتْ : مَا طُلِبَ مِنِّي شَيْء بَعْد وَقْعَة بَدْر . فَحَثَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْد الْمُطَّلِب وَبَنِي الْمُطَّلِب عَلَى إِعْطَائِهَا ; فَكَسَوْهَا وَأَعْطَوْهَا وَحَمَلُوهَا فَخَرَجَتْ إِلَى مَكَّة , وَأَتَاهَا حَاطِب فَقَالَ : أُعْطِيك عَشَرَة دَنَانِير وَبُرُدًا عَلَى أَنْ تُبَلِّغِي هَذَا الْكِتَاب إِلَى أَهْل مَكَّة . وَكَتَبَ فِي الْكِتَاب : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدكُمْ فَخُذُوا حِذْركُمْ . فَخَرَجَتْ سَارَّة , وَنَزَلَ جِبْرِيل فَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ , فَبَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْر وَأَبَا مَرْثَد الْغَنَوِيّ . وَفِي رِوَايَة : عَلِيًّا وَالزُّبَيْر وَالْمِقْدَاد . وَفِي رِوَايَة : أَرْسَلَ عَلِيًّا وَعَمَّار بْن يَاسِر . وَفِي رِوَايَة : عَلِيًّا وَعَمَّارًا وَعُمَر وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة وَالْمِقْدَاد وَأَبَا مَرْثَد - وَكَانُوا كُلّهمْ فُرْسَانًا - وَقَالَ لَهُمْ : ( اِنْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَة خَاخ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَة وَمَعَهَا كِتَاب مِنْ حَاطِب إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَخُذُوهُ مِنْهَا وَخَلُّوا سَبِيلهَا فَإِنْ لَمْ تَدْفَعهُ لَكُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقهَا ) فَأَدْرَكُوهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَان , فَقَالُوا لَهَا : أَيْنَ الْكِتَاب ؟ فَحَلَفَتْ مَا مَعَهَا كِتَاب , فَفَتَّشُوا أَمْتِعَتهَا فَلَمْ يَجِدُوا مَعَهَا كِتَابًا , فَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ فَقَالَ عَلِيّ : وَاَللَّه مَا كَذَبْنَا وَلَا كَذَّبْنَا ! وَسَلَّ سَيْفه وَقَالَ : أَخْرِجِي الْكِتَاب وَإِلَّا وَاَللَّه لَأُجَرِّدَنك وَلَأَضْرِبَن عُنُقك , فَلَمَّا رَأَتْ الْجَدّ أَخْرَجَتْهُ مِنْ ذُؤَابَتهَا - وَفِي رِوَايَة مِنْ حُجْزَتهَا - فَخَلَّوْا سَبِيلهَا وَرَجَعُوا بِالْكِتَابِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَأَرْسَلَ إِلَى حَاطِب فَقَالَ : ( هَلْ تَعْرِف الْكِتَاب ؟ ) قَالَ نَعَمْ . وَذَكَرَ الْحَدِيث بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّنَ جَمِيع النَّاس يَوْم الْفَتْح إِلَّا أَرْبَعَة هِيَ أَحَدهمْ .

السُّورَة أَصْل فِي النَّهْي عَنْ مُوالَاة الْكُفَّار . وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي غَيْر مَوْضِع . مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " لَا يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ " [ آل عِمْرَان : 28 ] . " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة مِنْ دُونكُمْ " [ آل عِمْرَان : 118 ] . " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء " [ الْمَائِدَة : 51 ] . وَمِثْله كَثِير . وَذُكِرَ أَنَّ حَاطِبًا لَمَّا سَمِعَ " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " غُشِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَح بِخِطَابِ الْإِيمَان .

يَعْنِي بِالظَّاهِرِ ; لِأَنَّ قَلْب حَاطِب كَانَ سَلِيمًا ; بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ : ( أَمَّا صَاحِبكُمْ فَقَدْ صَدَقَ ) وَهَذَا نَصّ فِي سَلَامَة فُؤَاده وَخُلُوص اِعْتِقَاده . وَالْبَاء فِي " بِالْمَوَدَّةِ " زَائِدَة ; كَمَا تَقُول : قَرَأْت السُّورَة وَقَرَأْت بِالسُّورَةِ , وَرَمَيْت إِلَيْهِ مَا فِي نَفْسِي وَبِمَا فِي نَفْسِي . وَيَجُوز أَنْ تَكُون ثَابِتَة عَلَى أَنَّ مَفْعُول " تَلْقَوْنَ " مَحْذُوف ; مَعْنَاهُ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ الْمَوَدَّة الَّتِي بَيْنكُمْ وَبَيْنهمْ . وَكَذَلِكَ " تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ " أَيْ بِسَبَبِ الْمَوَدَّة . وَقَالَ الْفَرَّاء : " تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ " مِنْ صِلَة " أَوْلِيَاء " وَدُخُول الْبَاء فِي الْمَوَدَّة وَخُرُوجهَا سَوَاء . وَيَجُوز أَنْ تَتَعَلَّق بِ " لَا تَتَّخِذُوا " حَالًا مِنْ ضَمِيره . وَبِ " أَوْلِيَاء " صِفَة لَهُ , وَيَجُوز أَنْ تَكُون اِسْتِئْنَافًا . وَمَعْنَى " تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ " تُخْبِرُونَهُمْ بِسَرَائِر الْمُسْلِمِينَ وَتَنْصَحُونَ لَهُمْ ; وَقَالَهُ الزَّجَّاج . الرَّابِعَة : مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعه عَلَى عَوْرَات الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّه عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّف عَدُوّهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ كَافِرًا إِذَا كَانَ فَعَلَهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيّ وَاعْتِقَاده عَلَى ذَلِكَ سَلِيم ; كَمَا فَعَلَ حَاطِب حِين قَصَدَ بِذَلِكَ اِتِّخَاذ الْيَد وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّة عَنْ الدِّين .

إِذَا قُلْنَا لَا يَكُون بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَلْ يُقْتَل بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لَا ؟ اِخْتَلَفَ النَّاس فِيهِ ; فَقَالَ مَالِك وَابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب : يَجْتَهِد فِي ذَلِكَ الْإِمَام . وَقَالَ عَبْد الْمَلِك : إِذَا كَانَتْ عَادَته تِلْكَ قُتِلَ , لِأَنَّهُ جَاسُوس , وَقَدْ قَالَ مَالِك بِقَتْلِ الْجَاسُوس - وَهُوَ صَحِيح لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيه بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْض . وَلَعَلَّ اِبْن الْمَاجِشُون إِنَّمَا اِتَّخَذَ التَّكْرَار فِي هَذَا لِأَنَّ حَاطِبًا أَخَذَ فِي أَوَّل فِعْله . وَاَللَّه أَعْلَم

فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوس كَافِرًا فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : يَكُون نَقْضًا لِعَهْدِهِ . وَقَالَ أَصْبَغ : الْجَاسُوس الْحَرْبِيّ يُقْتَل , وَالْجَاسُوس الْمُسْلِم وَالذِّمِّيّ يُعَاقَبَانِ إِلَّا إِنْ تَظَاهَرَا عَلَى الْإِسْلَام فَيُقْتَلَانِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اِسْمه فُرَات بْن حَيَّان , فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَل ; فَصَاحَ : يَا مَعْشَر الْأَنْصَار , أُقْتَل وَأَنَا أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه ! فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلَّى سَبِيله . ثُمَّ قَالَ : ( إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلهُ إِلَى إِيمَانه مِنْهُمْ فُرَات بْن حَيَّان ) . وَقَوْله : " وَقَدْ كَفَرُوا " حَال , إِمَّا مِنْ " لَا تَتَّخِذُوا " وَإِمَّا مِنْ " تَلْقَوْنَ " أَيْ لَا تَتَوَلَّوْهُمْ أَوْ تُوَادُّوهُمْ , وَهَذِهِ حَالهمْ . وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيّ " لَمَّا جَاءَكُمْ " أَيْ كَفَرُوا لِأَجْلِ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقّ .

" يُخْرِجُونَ الرَّسُول " اِسْتِئْنَاف كَلَام كَالتَّفْسِيرِ لِكُفْرِهِمْ وَعُتُوّهُمْ , أَوْ حَال مِنْ " كَفَرُوا " . " وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ رَبّكُمْ " تَعْلِيل ل " يُخْرِجُونَ " الْمَعْنَى يُخْرِجُونَ الرَّسُول وَيَخْرُجُونَكُمْ مِنْ مَكَّة لِأَنْ تُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ أَيْ لِأَجْلِ إِيمَانكُمْ بِاَللَّهِ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَكَانَ حَاطِب مِمَّنْ أُخْرِجَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , وَالتَّقْدِير لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاء إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِي . وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف , وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي , فَلَا تُلْقُوا إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ .

قِيلَ : " إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي " شَرْط وَجَوَابه مُقَدَّم . وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي فَلَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاء . وَنُصِبَ " جِهَادًا " و " اِبْتِغَاء " لِأَنَّهُ مَفْعُول . وَقَوْله : تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ " بَدَل مِنْ " تُلْقُونَ " وَمُبِين عَنْهُ . وَالْأَفْعَال تُبَدَّل مِنْ الْأَفْعَال , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَف لَهُ الْعَذَاب " [ الْفُرْقَان : 68 - 69 ] . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارنَا تَجِد حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا وَقِيلَ : هُوَ عَلَى تَقْدِير أَنْتُمْ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ , فَيَكُون اِسْتِئْنَافًا . وَهَذَا كُلّه مُعَاتَبَة لِحَاطِبٍ . وَهُوَ يَدُلّ عَلَى فَضْله وَكَرَامَته وَنَصِيحَته لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِدْق إِيمَانه , فَإِنَّ الْمُعَاتَبَة لَا تَكُون إِلَّا مِنْ مُحِبّ لِحَبِيبِهِ . كَمَا قَالَ : أُعَاتِب ذَا الْمَوَدَّة مِنْ صَدِيق إِذَا مَا رَابَنِي مِنْهُ اِجْتِنَاب إِذَا ذَهَبَ الْعِتَاب فَلَيْسَ وُدّ وَيَبْقَى الْوُدّ مَا بَقِيَ الْعِتَاب وَمَعْنَى " بِالْمَوَدَّةِ " أَيْ بِالنَّصِيحَةِ فِي الْكِتَاب إِلَيْهِمْ . وَالْبَاء زَائِدَة كَمَا ذَكَرْنَا , أَوْ ثَابِتَة غَيْر زَائِدَة .

" بِمَا أَخْفَيْتُمْ " أَضْمَرْتُمْ " وَمَا أَعْلَنْتُمْ " أَظْهَرْتُمْ . وَالْبَاء فِي " بِمَا " زَائِدَة ; يُقَال : عَلِمْت كَذَا وَعَلِمْت بِكَذَا . وَقِيلَ : وَأَنَا أَعْلَم مِنْ كُلّ أَحَد بِمَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ , فَحُذِفَ مِنْ كُلّ أَحَد . كَمَا يُقَال : فُلَان أَعْلَم وَأَفْضَل مِنْ غَيْره . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : وَأَنَا أَعْلَم بِمَا أَخْفَيْتُمْ فِي صُدُوركُمْ , وَمَا أَظْهَرْتُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ الْإِقْرَار وَالتَّوْحِيد .

أَيْ مَنْ يُسِرّ إِلَيْهِمْ وَيُكَاتِبهُمْ مِنْكُمْ

أَيْ أَخْطَأَ قَصْد الطَّرِيق .
none
Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

كتب عشوائيه

  • تعريف عام بدين الإسلام

    تعريف عام بدين الإسلام : يتألف هذا الكتاب من اثني عشر فصلاً ومقدمة وخاتمة. فأما المقدمة ففيها تصوير جميل لمعاني الفطرة والتكليف وطريقَي الجنة والنار وحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، أما الفصول الاثنا عشر فتعرض أبواب الإيمان جميعاً عرضاً واضحاً موجزاً يفهمه الكبير والصغير ويستمتع به العلماء والمثقفون وعامة الناس جميعاً؛ وهذه الفصول منها ثلاثة بمثابة المدخل للموضوع والتمهيد لباقي الكتاب، وهي: دين الإسلام، وتعريفات، وقواعد العقائد. والتسعة الباقية تشرح العقيدة وتبيّنها بما أسلفتُ من تيسير وتبسيط، وهي: الإيمان بالله، وتوحيد الألوهية، ومظاهر الإيمان، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر، والإيمان بالغيب، والإيمان بالملائكة والجن، والإيمان بالرسل، والإيمان بالكتب.

    المصدر: http://www.islamhouse.com/p/228876

    التحميل:

  • لفتات رمضانية

    لفتات رمضانية: رسالةٌ تضمَّنت خمس لفتاتٍ مهمة في رمضان; وهي: اللفتة الأولى: مسائل وأحكام في الصيام. اللفتة الثانية: تنبيهات على بعض أخطاء الصائمين. اللفتة الثالثة: الصوم الحقيقي. اللفتة الرابعة: فتاوى رمضانية. اللفتة الخامسة: أسباب عدم إجابة الدعاء.

    الناشر: المكتب التعاوني للدعوة وتوعية الجاليات بالربوة http://www.IslamHouse.com

    المصدر: http://www.islamhouse.com/p/319837

    التحميل:

  • العصبية القبلية من المنظور الإسلامي

    العصبية القبلية : هذه الكتاب مقسم إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة: فبين - المؤلف - في المقدمة دعوة الإسلام إلى الاعتصام بحبل الله، والتوحد والاجتماع على الخير، وأن معيار العقيدة هو المعيار الأساس للعلاقة الإنسانية، وأوضح في الفصل الأول: مفهوم العصبية القبلية ومظاهرها في الجاهلية، وفي الفصل الثاني: بيان العصبية الجاهلية المعاصرة ومظاهرها، وفي الثالث: تناول فيه معالجة الإسلام للعصبيات، وبين بعدها المبادئ التي رسخها في نفوس المسلمين، وضمن الخاتمة مهمات النتائج التي توصل إليها، والتوصيات. - قدم لها: فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، وفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، والأديب عبد الله بن محمد بن خميس - حفظهم الله -.

    الناشر: مؤسسة الجريسي للتوزيع والإعلان - شبكة الألوكة http://www.alukah.net

    المصدر: http://www.islamhouse.com/p/166708

    التحميل:

  • شبهات طال حولها الجدل [ القسم الأول ]

    شبهات طال حولها الجدل: كتابٌ جمع فيه المركزُ الشبهات المُثارة حول الصحابة - رضي الله عنهم -، ويرد عليها بردود علميةٍ قوية معتمدًا فيها على الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية، بفهم السلف الصالح - رضي الله عنهم -. وهذا هو القسم الأول من الكتاب.

    الناشر: جمعية الآل والأصحاب http://www.aal-alashab.org

    المصدر: http://www.islamhouse.com/p/335479

    التحميل:

  • تحفة العروس

    تحفة العروس: في هذه الصفحة نسخة مصورة pdf من كتاب تحفة العروس، وهو كتاب يشتمل على كل مايحتاج إليه الزوجان لتحقيق حياة سعيدة بناءة. فالحياة الزوجية فن جميل ومهم قلَّ من يعرفه، فتحدث المشكلات والأزمات بين الزوجين نتيجة الجهل بهذا الفن، وتتعرض الأسرة إلى هزَّات عنيفة، كثيراً ما تؤدي إلى زعزعة أركانها وتشريد أطفالها! فالجهل بفن الزواج، وكثرة الانحرافات الأخلاقية تضلل شبابنا وشاباتنا، مما يؤدي بكثير منهم إلى سلوك طريق الرذيلة والغواية.

    المصدر: http://www.islamhouse.com/p/276163

    التحميل:

اختر سوره

اختر اللغة